وهو بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام. ويقال: إن هود هو عامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، ويقال: هود بن عبد الله بن رباح الجارود بن عاد بن عوص بن إرم بن نوح عليه السلام. ذكره ابن جرير.
وكان من قبيلة يقال لهم: عاد بن عوص بن سام بن نوح، وكانوا عرباً يسكنون الأحقاف ـ وهي جبال الرمل ـ وكانت باليمين بن عمان وحضر موت، بأرض مطلة على البحر، يقال لها: "الشحر"، واسم واديهم: "مغيث".
وكانوا كثيراً ما يسكنون الخيام ذوات الأعمدة الضخام، كما قال تعالى:
{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ } * { إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ } (سورة الفجر:6ـ7) .
أي: عاد إرم وهم عاد الأولى، وأما عاد الثانية فمتأخرة كما سيأتي بيان ذلك في موضعه. وأما عاد الأولى فهم عاد
{ إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ } * { ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ } (سورة الفجر:7ـ8 ) .
أي: مثل القبيلة، وقيل مثل العمد، والصحيح الأول، كما بيناه في التفسير.
ومن زعم أن "إرم" مدينة تدور في الأرض، فتارة في الشام، وتارة في اليمن، وتارة في الحجاز، وتارة في غيرها، فقد أبعد النجعة، وقال ما لا دليل عليه، ولا برهان يعول عليه، ولا مستند يركن إليه. وفي صحيح ابن حبان عن أبي ذر في حديثه الطويل في ذكر الأنبياء والمرسلين قال فيه: "منهم أربعة من العرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيك يا أبا ذر".
ويقال: إن هوداً عليه السلام أول من تكلم بالعربية، وزعم وهب بن منبه أن أباه أول من تكلم بها، وقال غيره: أول من تكلم بها نوح، وقيل: آدم الأشبه، وقيل غير ذلك. والله أعلم. ويقال للعرب الذين كانوا قبل إسماعيل عليه السلام: العرب العاربة، وهم قبائل كثيرة منهم عاد، وثمود، وجرهم، وطسم، وأميم، ومدين، وعملاق، وعبيل، وجاسم، وقحطان، وبنو يقطن، وغيرهم.
وأما العرب المستعربة: فهم ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل، وكان إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام أول من تكلم بالعربية الفصيحة البليغة، وكان قد أخذ كلام العرب من جرهم الذين نزلوا عند أمة هاجر بالحرم كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله، ولكن أنطقه الله بها في غاية الفصاحة والبيان، وكذلك كان يتلفظ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمقصود أن عاداً ـ وهم عاد الأولى ـ كانوا أول من عبد الأصنام بعد الطوفان وكانت أصنامهم ثلاثة: صمدا، وصمود، وهرا. فبعث الله فيهم أخاهم هوداً عليه السلام فدعاهم إلي الله. وذلك بين في قوله لهم:
{ وَٱذكُرُوۤاْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي ٱلْخَلْقِ بَسْطَةً }(سورة الأعراف:69 ) .
أي: جعلهم أشد أهل زمانهم في الخلقة والشدة والبطش. وقال في "المؤمنون"
{ ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } (سورة الآية:31) .
وهم قوم هود على الصحيح. وزعم آخرون أنهم ثمود لقوله:
{ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ بِٱلْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً } (سورة المؤمنون:41) .
قالوا: وقوم صالح هم الذين أهلكوا بالصيحة
{ وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } (سورة الحاقة:6) .
وهذا الذي قالوه لا يمنع من اجتماع الصيحة والرياح العاتية عليهم؛ كما سيأتي في قصة أهل مدين أصحاب الأيكة، فإنه اجتمع عليهم أنواع من العقوبات، ثم لا خوف أن عاداً قبل ثمود. والمقصود أن عاداً كانوا عرباً جفاة كافرين، متمردين عتاة في عبادة الأصنام، فأرسل الله فيهم رجلاً منهم يدعوهم إلي الله وإلي إفراده بالعبادة والإخلاص له، فكذبوه وخالفوه وتنقصوه؛ فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
فلما أمرهم بعبادة الله ورغبهم في طاعته واستغفاره، ووعدهم على ذلك خير الدنيا والآخرة، وتوعدهم على مخالفة ذلك عقوبة الدنيا والآخرة:
{ قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ } (سورة الأعراف:66) .
أي: هذا الأمر الذي تدعونا إليه سفه بالنسبة إلي ما نحن عليه من عبادة هذه الأصنام التي يرتجي منها النصر والرزق، ومع هذا نظن أنك تكذب في دعواك أن الله أرسلك.
{ قَالَ يَٰقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ } (سورة الأعراف:67) .
أي: ليس الأمر كما تظنون ولا كما تعتقدون
{ أُبَلِّغُكُمْ رِسَٰلٰتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ } (سورة الأعراف:68) .
والبلاغ يستلزم هدم الكذب في أصل المبلغ، وعدم الزيادة فيه والنقص منه، ويستلزم أداءه بعبارة فصيحة وجيزة جامعة مانعة لا لبس فيها ولا اختلاف ولا اضطراب.
وهو مع هذا البلاغ على هذه الصفة في غاية النصح لقومه، والشفقة عليهم، والحرص على هدايتهم، لا يبتغي منهم أجراً، ولا يطلب منهم جعلاً، بل هو مخلص لله عز وجل في الدعوة إليه والنصح لخلقه، لا يطلب أجره إلا من الذي أرسله، فإن خير الدنيا والآخرة كله في يديه وأمره إليه، ولهذا قال:
{ يٰقَوْمِ لاۤ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِي فَطَرَنِيۤ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } (سورة هود:51) .
أي: أما لكم عقل تميزون به وتفهمون أني أدعوكم إلي الحق المبين الذي تشهد به فطرتكم التي خلقتم عليها، وهو دين الحق الذي بعث الله به نوحاً، وأهلك من خالفه من الخلق، وهاأنا أدعوكم إليه لا أسألكم عليه، بل ابتغي ذلك من عند الله مالك الضر والنفع، ولهذا قال مؤمن "يس":
{ ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } * { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } (سورة يس:21ـ22) .
وقال قوم هود له فيما قالوا:
{ يٰهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِيۤ آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } * { إِن نَّقُولُ إِلاَّ ٱعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوۤءٍ } (سورة هود:53ـ54) .
يقولون: ما جئتنا بخارق يشهد لك بصدق ما جئت به، وما نحن بالذين نترك عبادة أصنامنا عن مجرد قولك بلا دليل أقمته ولا برهان نصبته، وما نظن إلا أنك مجنون فيما تزعمه، وعندنا إنما أصابك هذا لأن بعض آلهتنا غضب عليك، فأصابك في عقلك فاعتراك جنون بسبب ذلك، وهو قولهم:
{ إِن نَّقُولُ إِلاَّ ٱعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوۤءٍ }(سورة هود:54) .
{ قَالَ إِنِّيۤ أُشْهِدُ ٱللَّهَ وَٱشْهَدُوۤاْ أَنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } * { مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ } (سورة هود:54ـ55) .
وهذا تحد منه لهم، وتبرؤ من آلهتهم، وتنقص منه لها، وبيان أنها لا تنفع شيئاً ولا تضر، وأنها جماد حكمها حكمه وفعلها فعله، فإن كانت كما تزعمون من أنها تنصر، وتنفع، وتضر، فها أنا إذاً برئ منها لاعن لها، فكيدوني أنتم وهي جميعاً بجميع ما يمكنكم أن تصلوا إليه وتقدروا عليه، ولا تؤخروني ساعة واحدة ولا طرفة عين؛ فإني لا أبالي بكم، ولا أفكر فيكم، ولا انظر إليكم.
{ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } (سورة هود:56) .
أي: أنا متوكل على الله ومتأيد به، وواثق بجانبه الذي لا يضيع من لاذ به واستند إليه، فلست أبالي مخلوقاً سواه، ليست أتوكل إلا عليه، ولا أعبد إلا إياه. وهذا وحده برهان قاطع على أن هوداً عبد الله ورسوله، وأنهم على جهل وضلال في عبادتهم غير الله، لأنهم لم يصلوا إليه بسوء، ولا نالوا منه مكروهاً؛ فدل على صدقه فيما جاءهم به، وبطلان ما هم عليه، وفساد ما ذهبوا إليه.
وهذا الدليل بعينه قد استدل به نوح عليه السلام قبله في قوله:
{ يٰقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوۤاْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ ٱقْضُوۤاْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ } (سورة يونس:71) .
{ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } * { وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَٰناً فَأَيُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِٱلأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } * { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوۤاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } * { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَٰهَآ إِبْرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَٰتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } (سورة الأنعام:80ـ83 ) .
{ وَقَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱلآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي ٱلْحَيـاةِ ٱلدُّنْيَا مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ } * { وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } * { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } (سورة المؤمنون:33ـ53 ) .
استبعدوا أن يبعث الله رسولاً بشرياً، وهذه الشبهة أدلى بها كثير من جهلة الكفرة قديماً وحديثاً، كما قال تعالى:
{ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ } )سورة يونس:2) .
وقال تعالى:
{ وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً } * { قُل لَوْ كَانَ فِي ٱلأَرْضِ مَلاۤئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً } (سورة الإسراء:94ـ95) .
ولهذا قال لهم هود عليه السلام:
{ أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ } (سورة الأعراف:69) .
أي: ليس هذا بعجيب؛ فإن الله أعلم حيث يجعل رسالاته. وقوله:
{ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } * { هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ } * { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } * { إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ ٱفتَرَىٰ عَلَىٰ ٱللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ } * { قَالَ رَبِّ ٱنْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ } ر(سورة المؤمنون: 35 ـ 39) .
استبعدوا المعاد وأنكروا قيام الأجساد بعد صيرورتها تراباً وعظاماً، وقالوا: هيهات هيهات، أي: بعيد بعيد هذا الوعد، (إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين). أي: يموت قوم ويحيا آخرون؛ وهذا هو اعتقاد الدهرية، كما يقول بعض الجهلة من الزنادقة: أرحام تدفع وأرض تبلع.
وأما الدورية فهم الذين يعتقدون أنهم يعودون إلي هذه الدار بعد كل ستة وثلاثين ألف سنة، وهذا كله كذب وكفر وجهل وضلال، وأقوال باطلة وخيال فاسد بلا برهان ولا دليل يستميل عقل الفجرة الكفرة من بني آدم الذين لا يعقلون لا يهتدون، كما قال تعالى:
{ وَلِتَصْغَىۤ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ } (سورة الأنعام:113) .
وقال لهم فيما وعظهم به:
{ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ } * { وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } (سورة الشعراء:128ـ129) .
يقول لهم: أتبنون بكل ريع آية تعبثون؛ مكان مرتفع بناء عظيم هائل كالقصور ونحوها، تعبثون ببنائها لأنه لا حاجة لكم فيه، وما ذاك إلا لأنهم كانوا يسكنون الخيام، كما قال تعالى:
{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ } * { إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ } * { ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ } (سورة الفجر:6ـ
.
فعاد إرم هم عاد الأولى الذين كانوا يصنعون الأعمدة التي تحمل الخيام التي يسكنونها. ومن زعم أن "إرم" مدينة من ذهب وفضة وهي تنتقل في البلاد، فقد غلط وأخطأ، وقال ما لا دليل عليه. وقوله: (وتتخذون مصانع) قيل: هي القصور، وقيل: بروج الحمام، وقيل مآخذ الماء، (لعلكم تخلدون) أي: رجاء منكم أن تعمروا في هذه الدار أعماراً طويلة.
{ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } * { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } * { وَٱتَّقُواْ ٱلَّذِيۤ أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ } * { أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ } * { وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } * { إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } (سورة الشعراء:130ـ135) .
وقالوا له مما قالوا:
{ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ ٱللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } (سورة الأعراف:70) .
أي: أجئتنا لنعبد الله وحده، ونخالف آباءنا وأسلافنا وما كانوا عليه؟ فإن كنت صادقا فيما جئت به فأتنا بما تعدنا من العذاب والنكال فإنا لا نؤمن بك ولا نتبعك ولا نصدقك.
كما قالوا:
{ قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ ٱلْوَاعِظِينَ } * { إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ خُلُقُ ٱلأَوَّلِينَ } * { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } (سورة الشعراء:136ـ137) .
إما على قراءة فتح الخاء، فالمراد به اختلاق الأولين، أي: إن هذا الذي جئت به إلا اختلاف منك، أخذته من كتب الأولين، وهكذا فسره غير واحد من الصحابة والتابعين، وإما على قراءة ضم الخاء اللام، فالمراد به الدين، أي: إن هذا الدين الذي نحن عليه ما هو إلا دين الأولين الآباء والأجداد من الأسلاف، ولن نتحول عنه ولا نتغير، ولا نزال متمسكين به.
ويناسب كلتا القراءتين الأولى والثانية قولهم: (وما نحن بمعذبين). قال:
{ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَٰدِلُونَنِي فِيۤ أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنْتُمْ وَآبَآؤكُمُ مَّا نَزَّلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَٱنْتَظِرُوۤاْ إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُنْتَظِرِينَ } (سورة الأعراف:71) .
أي: قد استحققتم بهذه المقالة الرجس والغضب من الله، أتعارضون عبادة الله وحده لا شريك له بعبادة أصنام نحتموها وسميتموها آلهة من تلقاء أنفسكم؟ اصطلحتم عليها أنتم وآباؤكم، ما نزل الله بها من سلطان، أي: لم ينزل على ما ذهبتم إليه دليلاً ولا برهاناً، وإذ أبيتم قبول الحق وتماديتم في الباطل، سواء عليكم أنهيتكم عما أنتم فيه أم لا، فانتظروا الآن عذاب الله الواقع بكم، وبأسه الذي لا يرد، ونكاله الذي لا يصد.
وقال تعالى:
{ قَالَ رَبِّ ٱنْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ } * { قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ } * { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ بِٱلْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } (سورة المؤمنون:39ـ41) .
وقال تعالى:
{ قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } * { قَالَ إِنَّمَا ٱلْعِلْمُ عِندَ ٱللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَـٰكِنِّيۤ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } * { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا ٱسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَىٰ إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْقَوْمَ ٱلْمُجْرِمِينَ } (سورة الأحقاف:22ـ25) .
وقد ذكر الله تعالى خبر إهلاكهم في غير ما آية كما تقدم مجملاً ومفصلاً، وكقوله:
{ فَأَنجَيْنَاهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } (سورة الأعراف:72) .
وكقوله:
{ وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } * { وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } * { وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاۤ إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } (سورة هود:58ـ60) .
وكقوله:
{ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ بِٱلْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } (سورة المؤمنون:41) .
وقال تعالى:
{ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ } * { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } (سورة الشعراء:139ـ140) .
وأما تفصيل إهلاكهم فكما قال تعالى:
{ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا ٱسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } (سورة الأحقاف:24) .
كان هذا أول ما ابتدأهم العذاب، أنهم كانوا ممحين مسنتين، فطلبوا السقيا؛ فرأوا عارضاً من السماء وظنوه سقيا رحمة، فإذا هو سقيا عذاب، ولهذا قال تعالى: (بل هو ما استعجلتم به) أي: من وقوع العذاب، وهو قولهم: (فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين)، ومثلها في الأعراف.
وقد ذكر المفسرون وغيرهم هاهنا الخبر الذي ذكره الإمام محمد بن إسحاق بن يسار قال: فلما أبوا إلا الكفر بالله عز وجل، أمسك عنهم القطر ثلاث سنين، حتى جهدهم ذلك، قال وكان الناس إذا جهدهم أمر في ذلك الزمان فطلبوا من الله الفرج منه إنما يطلبونه بحرمة ومكان بيته، وكان معروفاً عند أهل ذلك الزمان، وبه العماليق مقيمون، وهم من سلالة عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، وكان سيدهم إذ ذاك رجلاً يقال له معاوية بن بكر، وكانت أمة من قوم عاد واسمها جلهذه ابنة الخيبري.
قال: فبعث عاد وفداً قريباً من سبعين رجلاً ليستسقوا لهم عند الحرم، فمروا بمعاوية ابن بكر بظاهر مكة، فنزلوا عليه فأقاموا عنده شهراً، يشربون الخمر، وتغنيهم الجرادتان، قينتان لمعاوية، وكانوا قد وصلوا إليه في شهر.
فلما طال مقامهم عنده، وأخذته شفقة على قومه واستحيا منهم أن يأمرهم بالانصراف، عمل شعراً يعرض لهم فيه بالانصراف، وأمر القينتين أن تغنيهم به فقال:
ألا يا قيل ويحك وقم فهبنم فيسقي أرض عاد إن عادا من العطش الشديد فليس نرجو وقد كانت نساؤهم بخير وإن الوحش يأتيهم جهاراً وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم فقبح وفدكم من وفد قوم لعل الله يصحبنا غماما قد أمسوا لا يبينون الكلاما به الشيخ الكبير ولا الغلاما فقد أمست نساؤهم أيامي ولا يخشى لعاد سهاماً نهاركم وليلكم تماما ولا لقوا التحية والسلاما
قال فعند ذلك تنبه القوم لما جاءوا له، فنهضوا إلي الحرم ودعوا لقومهم، فدعا داعيهم، وهو قيل بن عتر، فأنشأ الله سحابات ثلاث: بيضاء، وحمراء، وسوداء، ثم ناداه مناد من السماء اختر لنفسك أو لقومك من هذا السحاب، فقال: اخترت السحابة السوداء فإنها أكثر السحاب ماء، فناداه مناد: اخترت رماد رمدداً لا تبقى من عاد أحداً، لا والداً تترك ولا ولداً، إلا جعلته همداً؛ إلا بني اللوذية الهمدا قال: وهم بطن من عاد كانوا مقيمين بمكة، فلم يصبهم ما أصاب قومهم. قال: ومن بقى من أنسابهم وأعقابهم هم عاد الآخرة.
قال: وساق الله السحابة السوداء التي اختارها قيل بن عتر بما فيها من النقمة إلي عاد حتى تخرج عليهم من واد يقال له المغيث، فلما رأوها استبشروا، وقالوا: هذا عارض ممطرنا فيقول تعالى:
{ هُوَ مَا ٱسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَىٰ إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْقَوْمَ ٱلْمُجْرِمِينَ } ( سورة الأحقاف:22ـ25) .
فكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح فيما يذكرون امرأة من عاد يقال لها: "مهد" فلما تبينت ما فيها صاحت ثم صعقت، فلما أفاقت قالوا: ما رأيت يا مهد؟ قالت: ريحاً فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها. فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، والحسوم: الدائمة، فلم تدع من عاد أحداً إلا هلك.
قال: واعتزل هود عليه السلام ـ فيما ذكر لي ـ في حظيرة هو ومن معه من المؤمنين ما يصيبهم إلا ما تلين عليهم الجلود، وتلذ الأنفس، وإنها لتمر على عاد بالظعن فيما بين السماء والأرض، وتدمغهم بالحجارة، وذكر تمام القصة.
وقد روي الإمام احمد حديثاً في مسنده يشبه هذه القصة فقال: حدثنا زيد بن الحباب حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي، حدثنا عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، عن الحارث ـ وهو ابن حسان ـ ويقال ابن يزيد البكري، قال: خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فمررت بالربذة، فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها، فقال لي: يا عبد الله إن لي إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة، فهل أنت مبلغي إليه؟
قال: فحملتها، فأتيت المدينة، فإذا المسجد غاص بأهله، وإذا راية سوداء تخفق وإذا بلال متقلد السيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ما شأن الناس؟ قالوا: يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجهاً.
قال: فجلست، قال: فدخل منزله ـ أو قال رحله ـ فاستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت فسلمت، فقال: "هل كان بينكم وبين بني تميم شيء؟" فقلت: نعم، وكانت لنا الدائرة عليهم، ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها، فسألتني أن أحملها إليك وهاهي بالباب، فأذن لها فدخلت، فقلت: يا رسول الله، إن رأيت أن تجعل بيننا وبين بني تميم حاجزاً، فاجعل الدهناء، فحميت العجوز واستوفزت، وقالت: يا رسول الله فإلي أين تضطر مضطرك؟ قال فقلت: إن مثلي ما قال الأول: معزى حملت حتفها، حملت هذه الأمة ولا أشعر أنها كانت لي خصماً، أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد، قال: هيه وما وافد عاد؟ وهو أعلم بالحديث مني ولكن يستطعمه.
قلت: إن عاداً قحطوا فبعثوا وافداً لهم يقال له: قيل، فمر بمعاوية بن بكر فأقام عنده شهراً يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان يقال لهما: الجرادتان، فلما مضى الشهر خرج إلي جبل تهامة، قال: اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلي مريض فأداويه، ولا إلي أسير فأفاديه، اللهم أسق عاداً ما كنت تسقيه. فمرت به سحابات سود فنودي منها: اختر، فأومأ إلي سحابة منها سوداء فنودي: خدها رماداً رمدداً، لا تبقى من عاد أحداً، قال: فما بلغني أنه بعث عليهم من الريح إلا كقدر ما تجري في خاتمي هذا من الريح حتى هلكوا.
قال ابن وائل: وصدق، فكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافداً لهم قالوا: لا تكن كوافد عاد. وهكذا رواه الترميذي عن عبد بن حميد، عن زيد بن الحباب به. ورواه النسائي من حيث سلام أبي المنذر، عن عاصم بن بهدلة، ومن طريقة رواه ابن ماجه. وهكذا أورد هذا الحديث وهذه القصة عند تفسير هذه القصة غير واحد من المفسرين كابن جرير وغيره.
وقد يكون هذا السياق لإهلاك عاد الآخرة، فإن فيما ذكره ابن إسحاق وغيره ذكر لمكة ولم تبن إلا بعد إبراهيم الخليل، حين أسكن فيها هاجر وابنه إسماعيل، ونزلت جرهم عندهم كما سيأتي، وعاد الأولى قبل الخليل، وفيه ذكر معاوية بن بكر وشعره. وهو من الشعر المتأخر عن زمان عاد الأولى، ولا يشبه كلام المتقدمين. وفيه أن في تلك السحابة شرر النار، وعاد الأولى إنما هلكوا بريح صرصر. وقد قال ابن مسعود وابن عباس وغير واحد من أئمة التابعين هي: الباردة، والعاتية: الشديدة الهبوب.
{ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً } (سورة الحاقة:7) .
أي: كوامل متتابعات قيل: كان أولها الجمعة، وقيل: الأربعاء.
{ فَتَرَى ٱلْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } (سورة الحاقة:7) .
شبههم بأعجاز النخل التي لا رءوس لها؛ وذلك لأن الريح تجئ إلي أحدهم فتحمله فترفعه في الهواء ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخه فيبقى جثة بلا رأس، كما قال تعالى:
{ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ }( سورة القمر:19) .
أي: في يوم نحس عليهم، مستمر عذابه عليهم.
{ تَنزِعُ ٱلنَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } (سورة القمر:20) .
ومن قال إن اليوم النحس المستمر هو يوم الأربعاء وتشاءم به لهذا الفهم فقد أخطأ وخالف القرآن، فإنه قال تعالى في الآية الأخرى:
{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِيۤ أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ } (سورة فصلت:16) .
ومعلوم أنها ثمانية أيام متتابعات، فلو كانت نحسات في أنفسها لكانت جميع الأيام السبعة المندرجة في الثمانية مشئومة، وهذا لا يقوله أحد، وإنما المراد في أيام نحسات؛ أي: عليهم.
وقال تعالى:
{ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلرِّيحَ ٱلْعَقِيمَ } (سورة الذاريات:41) .
أي: التي لا تنتج خيراً، فإن الريح المفردة لا تثير سحاباً ولا تلقح شجراً، بل هي عقيم لا نتيجة خير لها، ولهذا قال:
{ مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَٱلرَّمِيمِ } (سورة الذاريات:42) .
أي: كالشيء البالي الفاني الذي لا ينتفع به بالكلية.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور"
وأما قوله تعالى:
{ وَٱذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِٱلأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ ٱلنُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ إِنَّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } (سورة الأحقاف:21) .
فالظاهر أن عاداً هذه هي عاد الأولى، فإن سياقها شبيه بسياق قوم هود وهم الأولى، ويحتمل أن يكون المذكورون في هذه القصة هم عاد الثانية، ويدل عليه ما ذكرنا وما سيأتي من الحديث عن عائشة رضي الله عنها.
وأما قوله:
{ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } (سورة الأحقاف:24) .
فإن عاداً لما رأوا هذا العارض، وهو الناشئ في الجو كالسحاب ظنوه سحاب مطر، فإذا هو سحاب عذاب، اعتقدوه رحمة فإذا هو نقمة، رجوا فيه الخير فنالوا منه غاية الشر.
قال تعالى: (بل هو ما استعجلتم به) أي: من العذاب، ثم فسره بقول:
{ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } (سورة الأحقاف:24) .
يحتمل أن ذلك العذاب هو ما أصابهم من الريح الصرصر العاتية الباردة الشديدة الهبوب؛ التي استمرت عليهم سبع ليال بأيامها الثمانية فلم تبق منهم أحداً، بل تبعتهم حتى كانت تدخل عليهم كهوف الجبال والغيران فتلفهم، وتخرجهم، وتهلكهم، وتدمر عليهم البيوت المحكمة والقصور المشيدة، فكما منوا بشدتهم وبقوتهم وقالوا: من أشد منا قوة؟ سلط الله عليهم الذي هو أشد منهم قوة، وأقدر عليهم، وهو الريح العقيم.
ويحتمل أن هذه الريح أثارت في آخر الأمر سحابة، ظن من بقى منهم أنها سحابة فيها رحمة بهم وغياث لمن بقى منهم، فأرسلها الله عليهم شرراً وناراً، كما ذكره غير واحد. ويكون هذا كما أصاب أصحاب الظلة من أهل مدين، وجمع لهم بين الريح الباردة وعذاب النار، وهو أشد ما يكون من العذاب بالأشياء المختلفة المتضادة، مع الصيحة التي ذكرها في سورة "قد أفلح المؤمنون"، والله أعلم.
وقد قال ابن أبي حاتم، حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن الضريس، وحدثنا ابن فضيل عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما فتح الله على عاد من الريح التي أهلكوا بها إلا مثل موضع الخاتم، فمرت بأهل البادية فحملتهم ومواشيهم وأموالهم بين السماء والأرض، فما رأى ذلك أهل الحاضرة من عاد الريح وما فيها: (قالوا هذا عارض ممطرنا) فألقت أهل البادية ومواشيهم على أهل الحاضرة"
وقد رواه الطبري عن عبدان بن احمد، عن إسماعيل بن زكريا الكوفي، عن أبي مالك عن مسلم الملائي، عن مجاهد وسعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما فتح الله على عاد من الريح إلا مثل موضع الخاتم، ثم أرسلت عليهم البدو إلي الحضر، فلما رآها أهل الحضر (قالوا هذا عارض ممطرنا) مستقبل أوديتنا، وكان أهل البوادي فيها، فألقى أهل البادية على أهل الحاضرة حتى هلكوا"
قال: عتت على خزانها حتى خرجت من خلال الأبواب، قلت: وقال غيره: خرجت بغير حساب. والمقصود أن هذا الحديث في رفعة نظر، ثم قد اختلف فيه عل مسلم الملائي، وفيه نوع اضطراب، والله أعلم. وظاهر الآية أنهم رأوا عارضاً، والمفهوم منه لمعة السحاب، كما دل عليه حديث الحارث بن حسان البكري؛ إن جعلناه مفسراً لهذه القصة.
وأصرح منه في ذلك ما رواه مسلم في صحيحه حيث قال: حديثنا أبو الطاهر، أنبأنا ابن وهب، قال: سمعت ابن جريج يحدثنا عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: "اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به" قالت: وإذا غميت السماء تغير لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا أمطرت سرى عنه، فعرفت ذلك في وجهه، قالت عائشة: فسألته، فقال: "لعله يا عائشة كما قال قوم عاد:
{ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } (سورة الأحقاف:24) .
رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه، من حديث ابن جريج
طريق أخرى:
قال الإمام احمد: حدثنا هارون بن معروف، أنبأنا عبد الله بن وهب، أنبأنا عمرو وهو أن الحارث، أن أبا النضر حدثه عن سليمان بن يسار، عن عائشة أنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً قط، حتى أرى منه لهواته، إنما كان يبتسم، وقالت: كان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه، قالت: يا رسول الله: إن الناس إذا رأو الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيها المطر، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية فقال: "يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب! قد عذب قوم عاد بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا"
فهذا الحديث كالصريح في تغاير القصتين كما أشرنا إليه أولاً. وعلى هذا تكون القصة المذكورة في سورة الأحقاف خبراً عن قوم عاد الثانية، ويكون بقية السياقات في القرآن خبراً عن عاد الأولى، والله أعلم بالصواب. وهكذا رواه مسلم عن هارون بن معروف، وأخرجه البخاري، وأبو داود من حديث ابن وهب.
وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه ذكر صفة قبر هود عليه السلام في بلاد اليمن. وذكر آخرون أنه بدمشق، وبجامعها مكان في حائطه القبلي يزعم بعض الناس أنه قبر هود عليه السلام.