كلمة في التعدّد .. أملُ الرجال وألم النساء بقلم :د طارق عبد الحليم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
أعرف أني أخطو في منطقة كأنها مُحرّمةٌ، لِمَا يحيط بها من حَساسياتٍ ويكتنِفها من حواجز نفسية شائكة، تراكمت على مرّ قرونٍ من التنازلات السُنّية، والتغييرات الإجتماعية والإقتصادية، التي لا محل لتتبّعها في هذا المَقال، لكنها تبقى منطقةً تشْرئبٌ لما ورائها أعناق الرجال، وترتَعب من الإقتراب منها قلوب النساء. فلكلّ الرجال، لا تنتظروا منى ترغيباً فيه، ولكلّ النساء، لا تنتظروا منى ترهيباً منه، ثم هذا ما أقول بين يديكم جميعاً.
أود أن أبدأ بتقرير أن الزواج رباط يقوم على المودة والرحمة "وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةًۭ وَرَحْمَةً"الروم21، ونجاحُه يستلزم حبّاً متبادلاً بين الزوجين. وعادة، تتطور مشاعر الزوجين مع العِشرة، فتبدأ بقبولٍ واستحسانٍ، ثم مع الوقت وحسن المعاشرة، يصبح حباً هادئاً وتفاهما وارتباطاً نفسياً وعضوياً قوياً. وقد تختلف البداية بعض الشئ، حين يكون الزواج قد أسّس من يومه الأول على تفاهمٍ نفسيّ وتقارب في التصورات والتوجّهات، يقرأ نبض قلبها وتَستشِفُّ داعىَ حاجته، دون كلمات وثرثرة، فيكون الحب أول العِشرة، ويستمر بَعدها ويقوى.
والتعَدد، أمرٌ قد أحلتْه شريعة الإسلام، وفعلته صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجُلّ تابعيهم، وتابعي تابعيهم، دون حَرج أو مُماحكة. وقد جرى الكثير من كارهي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على رفضه، لعدم مواءمته لدين العلمانية الذي يدّعى حرية النساء وحفظ حقوقهن، والله يعلم أنهم أبعد عن هذا الحق أو نصيفه، أو تأويله وتقييده بما لم يقيّده به الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم. والتقييد تشريعٌ من دون الله، لا حق لإنسان فيه، إلا الله سبحانه. فقيدوه بمرض الزوجة، أو بسوء خلقها، أو بعقمها، أو ما شابه، مما يجعله في آخر الأمر أشبه بالجُرم الذي لا يُجاز إلا كما يُجاز أكل الخنزير أو شرب الخمر في أحوال الضّرورة.
والحق في ذلك، أنّ التَعدّد، كأيّ حُكمٍ أتت به الشّريعة، له حُكم أصليّ هو الإباحة، وبعض العلماء جعله الندب بناءً على إطباق الصحابة على فعله، ثم يقع بعد ذلك حكمه حسب كلّ مناطٍ أو حالة شخصية، فقد يكون واجباً لمن خاف الوقوع في الحرام وإن كانت له زوجة، أو الكراهة أو التحريم، إن كان ممن تعود ظلم النساء أو إيذائهن، أو التقصير في حقهن. إذا، فمن الخطأ أن يقال إن حكم التعدد كذا وكذا، فإن في ذلك تبسيطٌ مخلٌ لا يفى بغرضٍ، بل يزيد الأمور تعقيداً وغموضاً.
ثم إن الحاجة إلى التعدّد، هي أمرٌ فطريّ طبيعيّ بالنسبة للرجل، لو آخذته المرأة عليه حسبما تراه بفطرتها كأنثى، لضَلّت في حسابه وأخطأت في فهمه. كما أنّ الحاجة إلى الإستقرار والإستحواذ على رجلٍ بأسره، أمرٌ مفهومٌ معقول من أي إمرأة، لو آخذها عليه الرجل، أو عاتبها على غيرتها وغَضبها إنْ شاركتها فيه أخرى، لضلّ في فهم دواعي غَضبها وغيرتها، ولزاد الأمور بينهما تعقيداً.
ذلك إنه من الواجب، قبل أن ينظر الرجل والمرأة في هذا الأمر، أن يعترفا بأنّ كليهما مخلوقان مختلفان إختلافاً نفسياً، جذرياً وأصيلاً، في إحتياجاتهما وتصوراتهما، ومن ثمّ في ردود أفعالهما وتقييمهما للأمور. ودون هذا الإدراك والإقرار، يقف كلّ من الرجل والمرأة، حائرين على أعتاب عالم الآخر، لا يعرف من أين يَلِجُ، أو إلى أيّ شئ يتوجّه. وقد يكون هذا سَببُ كلّ تلك المشكلات التي تنشأ بينهما ليس بشأن التعدّد فحسب، بل في شؤون الحياة كلها.
المرأة تنظر إلى الزوجة الثانية على أنها عدوّ جاء ينتقِصُ من ميّزاتها ويقتنص من حقها المشروع في رَجُلِها، في المشاعر والوقت والإهتمام والمال. كما أنها، لسبب ما، تعتبر ذلك إنتقاصاً من قدرها كامرأة، وكأن زوجها قد رماها بالنّقص، أو صَرّح بأنها لا تكفيه ولا تشبع رغباته. وهذا أمرٌ مشتركٌ عامٌ بين كافة النساء، لا تكاد تنجو منه امرأة، إلا من رحم ربك. والمرأة قد جُبلت على قدرة نفسية خاصة تقف عند حدود الرجل الواحد، لا تتخطاه، ولا تحتَمل التعدد فيه، بأي شكلٍ من الأشكال. ولم يعرف الناس، إلا في الشاذ الذي يُثبت القاعدة، خلافاً لهذه الجبِلّة الأنثوية، في أية حضارة وبين أيّ شعب، في أي زمانٍ.
والرجل ينظر للأمر نظرةً جدّ مختلفةٍ. فهو قد يحب زوجه ويقدّرها ويحتَرمها، لكن الله قد طبعه على قدرة نفسية قادرة على أن تستوعب أكثر من إمرأة في آنٍ واحد، إلى أربعة منهن، لا يَنقُص من قدر إحداهن عنده شيئاً. وحتى نقرّب الصورة من فهم المرأة قليلا، فإنها تشبه حبها أولادها حبا متساوياً، واحداً كانوا أو عشرة، ولا فرق. والرجل قد يحتاج إلى إمرأة أخرى، يجد فيها ما لا يجده في إمرأته الأولى، مع فضل الأولى، كما يجد في أصدقائه ميزات متعددة، يرتاح لبعضها عند بعضهم دون الآخرين، ولا يجعل هذا أيّ من الأصدقاء أقل قيمة من الآخر.
وهذا لا يعنى أنّ الرَجل يجب عليه التعدد، بل إنّ هذا التحليل هو مجرد محاولة لتوضيح الأمر للطرفين، إذ متى وقع انسَدّت طرق التفاهم، وانغلقت سبل التقارب، وانقلب الإلفان عدوين، دون سبب حقيقيّ داعٍ لذلك. وبالطبع، نحن نتحدث عن شكلٍ من أشكال التعدد، هو السويّ منه، وإلا فإن هناك أسبابٌ أخرى، منها كُره الرجل لزوجه، لأي سبب من الأسباب، وقد وجهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إمساكها وعدم طلاقها، حِرصاً عليها، وإبقاءً على ما قد يكون من بعض جميل الطبع فيها، لكنه لم يقل "لا تتزوج غيرها"، فقط أمسكها، إلا أن يرى إنه لن يقيم حدود الله فيها.
التعدد لا يجب أن يفعله الرجل لمجرد شهوة عابرة، إذ إن في ذلك إحتمال الإضرار، ولا نقول إنه محرّم حتى في هذه الصورة، لكن قد يقود التصرّف المتسرّع ساعتها إلى الظُلم المُحرّم، والإخلال بالعقود والعهود، فيجب قطع وسيلة الظلم لمنع وقوعه. كما لا يجب أن تمنعه المرأة، لأنها لا يَنتقِص من قدرها شيئاً، ولا تقل قيمتها عند زوجها أو حبّه لها، إن كان رجلاً سوياً، فإن لم يكن رجلاً سوياً، فإن زواجَه بأخرى هو ساعتها أقل مُشكلاتها خُطورة! بل قد يكون الخلاص منه ساعتها أقرب للراحة والطمأنينة.
ثم إنّ المرأة الثانية، هي إمرأة كذلك، قد قبلت ورَضِيت بأن تكون ثانية، وهو أدل دليل على حاجتها إلى مأوى نفسيّ تلجأ اليه في خريف العمر وبَردِ الوحدة، أو هرباَ من زوجٍ مُجحفٍ وحياة بئيسة، فَلِمَ تحرمها أختها من هذا القدر الذي هو فضلٌ عند زوجها في المشاعر وغير المشاعر؟
المشكلة هي في تطبيق التعدّد، لا في مبدإِ التعدد، إذ هو مبدأ مشروع ومن ثم فهو معقولٌ مقبول. لكن المشكلة دائما، كانت وستظل، في التطبيق وردود الأفعال من الطرفين، الرجل والمرأة. ولو التزم كلاهما بما جبله الله عليه من فطرة، بأمانة وخُلق، لم يكن هناك مشكلة إلا بالقدر المقبول في حدود الحياة وصروفها، فلا يجب أنْ يُقدم الرجل حيث يجب أن يُحجِم، فإن أقدم، كان على زوجته أن تتقبل هذا القرار بصبرٍ، وتصارع شيطان النفس، لتقف في صَفّ الشرع، بدلاً من الوقوف ضده، وتعين على البناء والتعمير، لا على الهدم والتدمير.
وأخيراً، فإن الشّرعَ لم يُبح أمرأَ إلا وفيه من أوجه النفع ما يجعله مطلوباَ بالكلّ، ولذلك ترى أنّ علماء الأصول قد ضمّوا المباح إلى المطلوبات لا إلى الممنوعات. لكنّ المصلحة العامة هي التي تحدد درجة الطلب هذه كما ذكرنا، وحسابات هذه المصلحة تشمل مصلحة الزوجة والأبناء في الزواج الأول، ومصلحة الزوج في الزواج الثاني، ومصلحة المرأة في الزواج الثاني، كلها في ميزانٍ واحدٍ، يتقى الله ولا يتعدى حدوده، كما لا يتنازل عن هذا الحقّ دون سبب. والله وليّ التوفيق.