رمضان ... فرصتك للإخلاص والطهارة من الرياء
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى : "وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ " [البينة:5]
لا شك أن من أجل وأعظم العبادات التي تربي في نفوسنا حسن القصد لله ، و التوجه الكامل إليه ، و تصحيح النية و إخلاصها لله تعالى إنما هو الصيام . حيث إن حال الممسك عن الطعام شبعاً مثل حال الممسك عن الطعام تقرباً إلى الله تعالى في الصورة الظاهرة . وبالتالي لا يكون بينهما فارق إلا بالنية .
ولذلك يقول القرطبي: "لما كانت الأعمال يدخلها الرياء، والصوم لا يطَّلع عليه بمجرد فعله إلا الله ، فأضافه الله إلى نفسه ولهذا قال في هذا الحديث : " يدع شهوته من أجلي " .
وقال ابن الجوزي: "جميع العبادات تظهر بفعلها، وقلّ أن يسلم ما يظهر من شوب، بخلاف الصوم".
وكما قال الإمام أحمد: لا رياء في الصوم، فلا يدخله الرياء في فعله، من صفى صفى له، ومن كَدَّر كدر عليه، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله، وإنما يُكال للعبد كما كال.
ما أجمل العبادات عندما نريد بها وجه الله تعالى !
و ما أجمل الصيام حين نجني من ثمراته الإخلاص !
نعم إنه الإخلاص الذي نبحث عنه في كل أعمالنا فلا نكاد نجده !
الإخلاص الذي نعاني من فقدانه في معظم عباداتنا !
الإخلاص الذي هو سر بين العبد وربه لا يطلع عليه ملك فيكتبه ، أو شيطان فيفسده ، ولا هوى فيميله!
وما أجمل قول الحسن البصري عندما كان يعاتب نفسه و يوبخها بقوله : " تتكلمين بكلام الصالحين القانتين العابدين ، وتفعلين فعل الفاسقين المرائين ، والله ما هذه صفات المخلصين " .
وقال أبو سليمان الداراني : " إذا أخلص العبد ، انقطعت عنه كثرة الوساوس والرياء " .
ومن كلام الفضيل رحمه الله : ترك العمل من أجل الناس رياء ، والعمل من أجل الناس شرك ، والإخلاص أن يعافيك الله منهما .
يأتي الصيام فينمي فينا حب الإخلاص ، ويكون سببا لخلاصنا وطهخارتنا من الرياء ، فعن ابن شهاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لَيْسَ فِي الصِّيَامِ رِيَاءٌ " رواه البيهقي وقال هكذا روي بهذا الإسناد منقطعا .
و عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "...يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِى ، الصِّيَامُ لي ، وَأَنَا أَجْزِى بِهِ ... " رواه البخاري .
مفهوم الإخلاص
أخلص العمل لله أي صفّاه من كل شائبة حسيةً كانت أو معنوية .
يقول الأستاذ أبو القاسم القشيري في " رسالته ":
الإخلاص: إفراد الحق سبحانه في الطاعة بالقصد، وهو: أنه يريد بطاعته التقرب إلى الله سبحانه دون أي شيء آخر؛ من تصنع لمخلوق، أو اكتساب محمدة عند الناس، أو محبة مدح من الخلق، أو معنى من المعاني سوى التقرب به إلى الله تعالى، ويصح أن يقال: الإخلاص تصفية الفعل من ملاحظة المخلوقين.
ويصح أن يقال: الإخلاص: التوقي عن ملاحظة الأشخاص.
و يقول ابن القيم: " العمل بغير إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملاً يثقله ولا ينفعه ! " .
ويعرف حسن البنا الإخلاص : بأنه قصد المسلم بقوله و عمله و جهاده كله وجه الله و ابتغاء مرضاته و حسن مثوبته ، من غير نظر إلى مغنم أو منفعة أو مظهر أو جاه أو لقب أو تقدم أو تأخر ليكون المخلص جندي فكرة و عقيدة لا جندي غرض أو منفعة " قل إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله رب العالمين لا شريك له و بذلك أمرت و أنا أول المسلمين " [ سورة الأنعام الآيتين 162 ، 163 ] .
لماذا الإخلاص ؟
لأن الإسلام لا يرضى للمسلم أن يعيش بوجهين : وجه لله، ووجه لشركائه ، ولا أن تنقسم حياته إلى شطرين : شطر لله وشطر للطاغوت، الإسلام يرفض الثنائية المقيتة، والازدواجية البغيضة، التي نشهدها في حياة المسلمين اليوم، فنجد الرجل مسلما في المسجد أو في شهر رمضان، ثم هو في حياته، أو في معاملاته، أو في مواقفه إنسان آخر، إن الإخلاص هو الذي يوحد حياة المسلم، ويجعلها كلها لله، كما يجعله كله لله، فصلاته ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين." كتاب النية والإخلاص للقرضاوي ".
و لأن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ " [ رواه مسلم ] .
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ " . [ رواه مسلم ] .
صور من الإخلاص
قال الفلاس: "سمعت ابن أبي عدي يقول: "صام داود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله ، كان خزازاً يحمل غداءه فيتصدق به في الطريق" . [ مجلة البحوث الإسلامية ] .
ويحكى أن ملكا من الملوك أراد أن يبني مسجدا في مدينته وأمر أن لا يشارك أحد في بناء هذا المسجد لا بالمال ولا بغيره...حيث يريد أن يكون هذا المسجد هو من ماله فقط دون مساعدة من أحد وحذر وأنذر من أن يساعد أحد في ذلك .
وفعلاً تم البدء في بناء المسجد ووضع اسمه عليه وفي ليلة من الليالي رأى الملك في المنام كأن ملكا من الملائكة نزل من السماء فمسح اسم الملك عن المسجد وكتب اسم امرأة فلما استيقظ الملك من النوم استيقظ مفزوعا وأرسل جنوده ينظرون هل اسمه مازال على المسجد فذهبوا ورجعوا وقالوا نعم اسمك مازال موجودا ومكتوبا على المسجد وقال له حاشيته : هذه أضغاث أحلام .
وفي الليلة الثانية رأى الملك نفس الرؤيا رأى ملكا من الملائكة ينزل من السماء فيمسح اسم الملك عن المسجد ويكتب اسم امرأة على المسجد وفي الصباح استيقظ الملك وأرسل جنوده يتأكدون هل مازال اسمه موجودا على المسجد ، فذهبوا ورجعوا وأخبروه أن اسمه مازال هو الموجود على المسجد !
تعجب الملك وغضب فلما كانت الليلة الثالثة تكررت الرؤيا فلما قام الملك من النوم قام وقد حفظ اسم المرأة التي يكتب اسمها على المسجد ، فأمر بإحضارها ، فحضرت وكانت امرأة عجوز فقيرة فوقفت بين يديه ترتعد فرائصها ، فسألها : هل ساعدت في بناء المسجد الذي يبنى ؟
قالت يا أيها الملك أنا امرأة عجوز وفقيرة وكبيرة في السن وقد سمعتك تنهى عن أن يساعد أحد في بنائه .
فلا يمكنني أن أعصيك . فقال لها أسألك بالله ماذا صنعت في بناء المسجد ؟ قالت والله ما عملت شيئا قط في بناء هذا المسجد إلا ... فقاطعها الملك قائلا : نعم إلا ماذا ؟
فقالت إلا أنني مررت ذات يوم من جانب المسجد فإذا أحد الدواب التي تحمل الأخشاب وأدوات البناء للمسجد مربوط بحبل إلى وتد في الأرض وبالقرب منه سطل به ماء وهذا الحيوان يريد أن يقترب من الماء ليشرب فلا يستطيع بسبب الحبل . والعطش بلغ منه مبلغا شديدا ، فقمت وقربت سطل الماء إليه ، فشرب من الماء .
هذا والله الذي صنعته . فقال الملك نعم عملت هذا لوجه الله فقبل الله منك وأنا عملت عملي ليقال : مسجد الملك ! فلم يقبل الله مني فأمر الملك أن يكتب اسم المرأة العجوز على هذا المسجد .
الواجب العملي :
افعل اليوم عملا ، لا يعلمه أحد إلا الله ، و لا تحدث به نفسك بعد ذلك ولا أحدا من الناس ، بل اجعله بينك وبين ربك ..وداوم على عمل السر لأنك ستحتاجه بعد ذلك في مواجهة عقبات الحياة .