نشأة الموسيقى
الموسيقى نشأت مع الإنسان كما نشأت لغته التي يتحدث بها بل كانت لغتة الثانية التي تخاطب بها مع ما حوله في الطبيعة وكانت هي الوسيط الذي نقل احاسيسه وانفعالاته مع مايراه ومايسمعه ويشعر به منذ ان سمع خرير الماء ومنذ سمع صدى صوته في تلك الكهوف ومنذ اصتكت حصية صغيرة على اخرى ومنذ ان ضرب بيد على يد فكانت تلك الايقاعات وتلك النغمات ملهمة له لأن يكتشف سر هذا التجانس الصوتي الذي يطربه ويلهمه في احيان اخرى. منذ اكتشف الانسان ذلك اصبحت الموسيقى لغة له ولغيرة واصحبت لغة عالمية سهلة المفردات غزيرة المعاني يحسن فهمها كل البشر مهما اختلفت الوانهم ولغاتهم، ولذلك لم تتفق الشعوب على شئ مثل حبها للموسيقى فكانت جزء من حياة الشعوب وجزء لا يتجزأ من حضاراتها بل كانت مراة تعكس ثقافاتها.
وقد عرفت جميع الحضارات أهمية الموسيقى فمن اليونانين القدماء والفراعنة الى العصور الحديثة، ولم يكن أثر الموسيقى الايجابي جليا فقط على حياة الناس بالمتعة والترفيه بل كان له دور كبير في صحتهم النفسية حيث استخدم قديما في علاج حالات الصرع والتشنج وغيرها من الامراض العضوية ولم يكن العرب استثاءا من ذلك ففي عصر النهظة العربية اثناء العصر العباس الذهبي كانت هناك مؤلفات عديدة قام عليها اطباء وفلاسفة ومفكرين عظام مثل ابن سيناء والكندي والفارابي بينوا فيها اهمية الموسيقى من الناحية الطبية والنفسية وكتب الاطباء منهم وصفات خاصة تبين كيفية العلاج بالموسيقى ودورها الحيوي في حياة الأنسان. ولم يكتف العرب ببيان أهمية الموسيقى بل ألفوا لها المقامات والحروف الموسيقية وكان لزرياب والموصولي وغيرهم في ذلك العهد دور كبير في ذلك.
ولم يقتصر العلم الحديث على بيان دور الموسيقى في النواحي الطبية والنفسية فقط بل وجدوا ان الموسيقى جزء اساسي في بناء عقل الأنسان البشري وأكدت بحوثهم على أهمية تعليم الطفل الموسيقى وكيفيه التعامل معها وكان من توصياتهم ان يتعلم الطفل على الأقل الة موسيقية واحدة في بداية حياته وقد اقترنت اهمية تعليم الموسيقى بتعليم الرياضيات للأطفال مما تتسببه من مرونة في عقل الطفل وتنمية ملكة الدقة والقدرة على الملاحظة وتعلم اللغة بسهولة. ولا عجب ان يدرك العلماء قديما وحديثا اهمية الموسيقى فهذا الجنين كما أثبتت الدراسات يتأثر بالموسيقى مثلما يتأثر بصوت أمه التي تحمله في احشائها ولعلنا نلاحظ ذلك حتى بعد ولادة الأطفال فنجدهم ينصتون الى أي صوت موسيقى او رتم منتظم بكل هدوء وانسجام فطري، فسبحان الله.
وفي دراسة عربية حديثة للمجلس العربي للطفولة ذكرت ان الموسيقى لها دور كبير في تنمية شخصية الطفل وركزت على أهمية تدريسها للأطفال وقد أثبتت الدراسة ان الموسيقى تؤدي الى تنمية التوافق الحركي والعضلي وتؤدي الى تدريب الأذن على التميز بين الأصوات المختلفة وكذلك تنمى الادارك الحسى والقدرة على الملاحظة والترتيب المنطقي للأشياء وتنمي فيه قدرة الابتكار مما ينعكس على تحصيله الدراسي بشكل عام. وقد نوهت الدراسة ايضا الى اهيمة الموسيقى في ضبط المؤثرات الأنفعاليه لدى الطفل حيث تؤدي الى بناء شخصية قوية تستطيع السيطرة على التوتر والقلق وكذلك تثير فيه الأنفعالات المختلفة من فرح وحزن وشجاعة وقوة واقدام مما يسهل قدرة التعبير عن هذه الأنفعالات وكذلك بينت اهمية الموسيقى لدى الطفل في تنمية روح الفريق والعمل الجماعي عندما يشترك مع الاخرين في اخراج قطعة موسيقية واحدة نتيجة جهد وعمل دؤوب مع الغير.
وصدور دراسة عربية ونتائجها بهذا الشكل ليس بمستغرب فقد سبقت هذه الدراسة دراسات لا تحصى على جميع الشعوب وعلى مختلف الحضارات بينت هذه الفوائد والدليل على ذلك انه لا يوجد نظام تعليمي واحد في العالم المتقدم لا يتبنى تدريس الموسيقى في المراحل الدراسية الأولى وهو أمر مسلم به بناء على بحوث قاموا بها خبراء في التربية وعلم النفس، فهذا الدكتور ريستشر والدكتور شوا من جامعة كلفورنيا يؤكدون في دراسات عديدة ان الموسيقى لها دور اساسي في تطوير مهارات التفكير التحليلي حيث بينت دراستهم الأخيرة التي اجروها على اطفال تلقوا دروسا في الموسيقى خلال ثمانية اشهر تحسنا بمقدار 46% في نتائج اختبار القدرات العقلية وقد وجدوا دلالة علمية بوجود علاقة بين الدرجات العليا لأختبارات "سات" للطلاب الجامعين وبين معرفتهم لعزف اله موسيقه معينة او أكثر. وفي دراسة حديثة اجريت في اليابان على اكثر من 18000 شخص و استمرت مايقارب عشرون عاما وجد البروفسور ينج ان الذين تعلموا الموسيقى كانت قدرتهم على تعلم لغة ثانية وثالثة اسهل من الذين لا يحسنون استماع او استخدام الالات الموسيقى. والموسيقى لم يقتصر تأثيرها على الانسان فقط فحتى الحيوانات تتأثر بها فقد وجد في هولندا ان البقر التي تستمع الى الموسيقى بشكل منتظم يكون انتاجها للحليب افضل وأوفر
ولابد هنا من التنويه انه لا تخلو جامعة عريقة في العالم من وجود اقسام وكليات متخصصة في الموسيقى وعلومها حيث تمنح اعلى الدرجات من بكالريوس وماجستير ودكتوراة في هذا المجال ولا يقل هذا التخصص عن غيرة -ان لم يفوقها- فيما يتطلبه من جهد وتفاني من قبل الدارس حتى يحصل على شهادته فتخصص الموسيقى يعتبر من التخصصات المتقدمة مثل غيرة من التخصصات الاخرى.
وذا كان الأمر كذلك فقد حان الوقت ان يلتفت التربويون العرب الى اهمية هذا الجانب التربوي في حياة الطفل لينادوا باعطاء الموسيقى دورا فاعلا في العملية التربوية من خلال توفير الوسائل التي يستطيع فيها الأب او الأم تعليم ابنائهم وبناتهم التعامل مع الموسيقى الراقية لينموا مداركهم واحاسيسهم التي سوف تنعكس ايجابا على سلوكهم وعلى تحصيلهم العلمي.